الاثنين، 16 يناير 2012

التشبيك الاجتماعي وأزمة الهوية

الشبكات الاجتماعية وأزمة الهوية
في ظل تطور تكنولوجيا الاتصال والتواصل الاجتماعي

عبدالوهاب جودة الحايس
قسم علم الاجتماع – كلية الآداب والعلوم الاجتماعية

تمهيد
شهدت السنوات الأخيرة اهتماما بالغا حيال موضوع الهوية من قبل الباحثين والمفكرين . وقد عالج الفكر الفلسفي الإغريقي منذ البداية مسألة الهوية باعتبارها أحد مبادئ المنطق، وأصبحت إشكالية تميز كل ثقافة بالذات كما تعدّت ذلك لتصبح أزمة تعيشها الجماعات الثقافية في صميمها على حد قول " كلود ليفي شتراوس " وتقع مسألة الهوية اليوم على مفترق طرق، وأصبحت تمثل " الداء الجديد" الذي يميز عصرنا. ويمثل مفهوم الهوية معضلة معرفية أمام مختلف الباحثين والمفكرين، لاسيما الباحثين والمفكرين العرب.
ويعد مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والنقاش والتشابك والتداخل، الأمر الذي يؤدي دائما إلى طرح سؤال الهوية. إن التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتطور التكنولوجي الكبير الذي أصبح يهيمن على حياة البشر أدى إلى خلخلة الهويات الساكنة. ومن الصعب اختزال مفهوم الهوية في معنى واحد؛ لأن الهوية باعتبارها ثقافة حية قادرة على دمج الاختلافات التي تشكل سمو الإنسان. إن الثقافات تتميز بالتنوع، حيث نجد ثقافة تمتلك القدرة على الانفتاح والاستقبال والضيافة، وهناك ثقافة أخرى تفرز مقاومات وعناصر للاستبعاد والاستقصاء، والتي تبرز المشكلة الجوهرية " مشكلة الاعتراف بالأخر " وتقبل اختلاف الغير، الأمر الذي يؤدي إلى غياب التعاون وبروز الصراع.
وعلى المستوى العربي، تزداد معضلة الهوية، حيث يتأرجح المجتمع العربي بين الدعوة إلى هويات مختلفة، فتارة الدعوة إلى هوية عربية، وتارة أخرى إلى هوية إسلامية، وأحيانا هويات قطرية، وتنطلق في معظمها من مرجعية سلفية أو راديكالية، وقد أدى ذلك إلى قيام الدولة القطرية إما باحتضان تلك الهوية أو التصدي لها. إن القول بأن المجتمعات العربية والإسلامية تختلف جذريا عن الغرب من حيث افتقارها إلى ما يسمى بروح المجتمعات المدنية الديمقراطية قد أعاد التأكيد على ضرورة إعادة اكتشاف عناصر الذات العربية وأفاق تفاعلها الاجتماعي والسياسي عن طريق تقوية التماسك الاجتماعي العربي وتفعيل التنمية وتخطي السلوكيات الإثنية والطائفية والدينية والعشائرية.
الهوية بين الوحدة والتنوع :
لقد أثبتت التطورات التاريخية، أن الانتماء القومي والإثني والديني من أقوى الانتماءات وأكثرها صمودا، لذلك فمن الصعب تقبل فكرة انصهار الجماعات في بوتقة واحدة. إن الانتماء إلى جماعة محددة يعني ضمنا وجود جماعات أخرى، أي أنه لا يمكن أن توجد هوية جماعية معينة، إلا بوجود هويات أخرى، وتؤكد هذه المقولة أهمية الحدود بين الجماعات، لاسيما التي تتشكل على الأسس نفسها ( قومي، اثني، ديني .... الخ)، فالفرد يعرف نفسه بطريقة تضعه داخل حدود جماعة معينة.
جوانب الهوية: علاوة على ما سبق، تتضمن الهوية وجهين، الأول: الثابت، والثاني: المتغير. فهناك ثوابت ثقافية يصعب تغييرها وتحتفظ باستمراريتها عبر الأجيال وهي مكتسبة، وهناك عناصر ورموز ثقافية قابلة للتغير والإضافة والحراك. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحالة الأكثر شيوعا وتكراراً هي الثبات والديمومة.
مؤشرات تحديد الهوية الوطنية: المؤشرات الدالة على الهوية الوطنية هي: مجموعة الخصائص المتعلقة بالإنسان والتي يقدمها للآخرين ليعبر بها عن هويته ووطنيته وانتمائه لجنسيته وهويته.ومن هذه المؤشرات والدلالات للهوية الوطنية: مكان الولادة، وروابط الأسلاف والأجداد، والانتماء القبلي، والالتزام بالعادات والتقاليد والأعراف، والالتزام بالقوانين، ومكان الإقامة، والالتزام بالزى التقليدي، وطول فترة الإقامة، والأسماء والألقاب، والنشأة والتربية،و اللهجة، والشكل والمظهر الخارجي. وتستعمل تلك المؤشرات للهوية عندما ينظر الناس إلى غيرهم ويحاولون التعبير عن هويتهم الوطنية عن طريق استخدام هذه المؤشرات، كما يمكن استخدامها ضمن الوطن الواحد وبين إفراده بهدف تمتين الروابط الوطنية والثقافية وزيادة التماسك والحس بالهوية الواحدة والمصير المشترك، ومن ثم تعزيز الانتماء.
وظائف الهوية
تتمثل أهم الوظائف للهوية في المجتمعات فيما يلي: 1- ضمان الاستمرارية التاريخية للأمة إذ لا يمكن التشكيك في انتماءاتها. 2- تحقيق درجة عالية من التجانس والانسجام بين السكان في مختلف جهات الوطن الواحد. 3- تمثل الهوية الجنسية والشخصية الوطنية التي تحافظ على صورة الأمة أمام الأمم الأخرى، وذلك من خلال الحفاظ على الكيان المميز لتلك الأمة

تكنولوجيا الاتصال والتواصل الشبكي وأزمة الهوية

نحن نعيش الآن مرحلة ما بعد العولمة، حيث وصل النموذج الرأسمالي العالمي خلال الآونة الأخيرة إلى مستوى الهيمنة على كافة اقتصادات الدول ونظمها الثقافية، مستخدما الشركات العملاقة والمتعدية الأوطان، ومستندا على كافة الآليات التي دعمتها الثورة التكنولوجية في مجال الاتصال والتواصل الإنساني. لقد شهدت تلك المرحلة تطورات متسارعة في تقنيات الاتصال والتواصل الإنساني، إلى جانب التغيرات السريعة – اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا - ، ولعل أخطر النتائج المترتبة على ما بعد العولمة وما أفرزته من تداعيات، تلك المتصلة بمخاطر الاقتلاع الثقافي والخوف من فقدان الهوية لدى العديد من الشعوب والأمم، وما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية ( اجتماعية وأخلاقية ) على الإنسان العربي. فما يحدث منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي من تحول نحو ثقافة تعتمد على الصورة والإشارات والنصوص المرئية على الشاشات الإلكترونية الدائمة البث، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الاتصال عبر الانترنت، عززتهها التطورات التقنية للتطبيقات المتنوعة للاتصال والتواصل الاجتماعي، سواء عبر أجهزة الحاسوب، أو عبر الهواتف النقالة بأجيالها المتعاقبة القادرة على تصفح مواقع الشبكات الاجتماعية. وقد أصبحت تلك الهواتف النقالة متاحة لدى كافة الشرائح الاجتماعية بمختلف أنماطها، الأمر الذي أدى إلى تشبيك العالم أجمع.
إن التطورات التقنية للتطبيقات المتعلقة بالتواصل الاجتماعي، ( الفيس بوك، تويتر ، ماي سبيس، تاجد، وغيرها من التطبيقات )وإنشاء المواقع الالكترونية، وأدلة المواقع، ساعدت على نشر مختلف الرموز الثقافية لمختلف الأمم والشعوب، وساعدت على انفتاح مختلف الشرائح الاجتماعية بجميع مجتمعات العالم على بعضها البعض والإطلاع على رموزها وسماتها الثقافية، بل وتشبيك الثقافات المختلفة في العالم، و مكَّنت من نقل تلك الرموز الثقافية عبر المجتمعات بصورة أسرع من الآليات التي كانت متبعة سابقا، حتى أضحت الثقافة الآن " سلعة " تباع وتشترى في ظل الأوضاع الجديدة، ومن ثم " تشيؤها " والتقليل من قيمتها لدى بعض الجماعات. لقد بات ذلك التطور يشكل تهديدا لمنظومات القيم، والرموز الثقافية، وتغييرا في المرجعيات الوجودية وأنماط الحياة. لقد أضحت كثير من الثقافات والشعوب عارية تماما أمام تشبيك مجتلف الفئات العمرية والنوعية بجميع مجتمعات العالم - رغم أهمية ذلك الترابط والتواصل - إلى جانب تدفق المضمون الإعلامي المنبعث من مختلف وسائط الاتصال – الفضائيات ، الانترنت – والذي يحمل الرسائل والعلامات المشبعة بقيم ومضامين متنوعة ومغايرة، وتحمل معها أبطالا ورموزا جديدة تمتلئ بها مخيلة المشاهد بدءا بعارضات الأزياء ونجوم الكرة ، ووصولا إلى رموز الفن والسينما والأطعمة وأنماط السلوك وموضات الملابس، علاوة على أنماط جديدة من العلاقات الإنسانية والسلوكيات الاجتماعية، كأنماط الزواج المختلفة، والصداقة، والصحبة، وأشكال من التوجهات السلوكية الأخرى: كجماعات عبدة الشيطان، والبويات، والجنسية المثلية، وغيرها من التقاليد المتنوعة والمنتشرة كثقافات فرعية ضمن الثقافات العامة بالمجتمعات غير العربية.
إن من أخطار تداعيات تحولات ما بعد العولمة على الهوية العربية والإسلامية، ابتذال مضمون رسالة الثقافة الوافدة عبر الفضائيات ووساط الاتصال الرقمية المتنوعة: إدخال قضايا الجنس ووسائله في الإعلانات والدعاية عن السلع والمنتجات، واستخدام المرأة الفاتنة في الإعلانات وربطها بالإعلان عن المنتجات كالسيارات والشيكولاته ومعاجين الأسنان، بالإضافة إلى الانتشار السريع والفعال لأنماط القيم الغربية في الفن والملبس والمأكل والتسلية، والترويج للثقافة الاستهلاكية، الأمر الذي أدى إلى تشويه البنى التقليدية للأمم وتغريـب الإنسان، وعزله عن قضاياه الحقيقية، وتشكيكه في جميع قناعاته الوطنية والقومية والدينية، من أجل إخضاعه نهائيا للقوى المسيطرة، ومن ثم تشويه الهوية.
تمفصل ثقافي وتمييع الهوية:
لقد ساعدت وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي باعتمادها على ثقافة الصورة بدلا من ثقافة الكلمة – ساعدت - على اختراق الحدود الثقافية، وترويج الثقافة السائدة ذات الطابع الغربي، عبر آليات التأثير الإلكتروني ممثلة في مواقع الشبكات الاجتماعية، واكتساح الفضاء الثقافي وهيمنة الثقافات الغربية، مهددا الثقافات الفرعية، وثقافة الجماعات الصغيرة، ومن ثم الانزواء والاحتماء بالتاريخ والتراث، أو الذوبان في خضم الثقافة السائدة والضياع في تيارها الجارف. بالإضافة الى ذلك، ظهرت جماعات وأفراد تحاول الجمع بين الوافد والمحلي، حيث تتمثل الثقافة الوافدة بقيمها ورموزها مع الاحتفاظ ببعض الموز الثقافة الموروثة أو الأصيلة، لتشكل " تكوين ثقافي " خليط ومركب من أنماط متنوعة، تتعايش مع بعضها البعض، رغم هيمنة نمط معين منها، ويكون في الأغلب النمط الثقافي الوافد. ويطلق على هذا النمط " التمفصل الثقافي " - وفق رؤية سمير أمين -، الأمر الذي يساعد على تشويه الهوية المحلية، وتمييع رموزها الثقافية، وخلق جماعات مضاده تشكل ما يسمى بالصراع الثقافي.
لقد مكنت وسائل الاتصال الرقمي – في ظل تداعيات ما بعد العولمة - الدول المهيمنة اقتصاديا، ومن ثم ثقافيا بنظمها الاجتماعية والسياسية والثقافية من فرض ثقافتها على الشعوب العربية والإسلامية، والنفاذ بها إلي عقول شبابها لتشكيلهم ثقافيا ووجدانيا وفق النمط السائد، مستخدمة في ذلك كل صور الإغراء والتأثير، ومستعينة في ذلك بالآليات الفعالة لتلك الثورة الاتصالية والمعلوماتية العصرية، يظهر ذلك في تمثل الشباب وتقمصهم للأنماط الجديدة من الموضات، والأفكار والقيم، والأذواق، والعادات والتقاليد، والتي انعكست على كافة سلوكيات الشباب، مؤدية إلى تمييع الهوية المحلية.
وتتضح مؤشرات تميع الهوية الوطنية في طمس الخصوصية الثقافية، وصعوبة تمييز رموزها المحلية عن الوافدة، وعدم تفردها، وافتقادها لعناصر التنوع والأصالة- سواء في جوانبها الثقافية أو الأخلاقية أو الدينية -، حيث ترفع الثقافة الوافدة شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف، وهي بذلك تختزل العالم إلى مفهوم، وتتخطى حقيقته باعتباره تشكيلا متنوعا من القوى والإرادات والانتماء والتطلعات. ويؤدي التوحيد الذي لا يعترف بالتنوع إلى توترات وصراعات، تفجر نزعات التعصب والانغلاق ، والعودة إلى إحياء الخصوصيات الضيقة التي تتغذى من مرجعيات عرقية ودينية مغلقة، الأمر الذي يقود إلى الارتماء في أحضان الهويات الثابتة المغلقة. الاغتراب: نتيجة لحالة تشويه الهوية، بزوبان عناصرها المحلية في الثقافات الوافدة، تظهور حالة الاغتراب بأشكاله المختلفة، حيث يبحث الفرد لنفسه عن معنى وهمي للحرية يدفعه إلى الارتماء في ثقافة تخلق نجومية مفتعلة في أغلبها، وتخلق في النهاية إنسانا خاملا، يعززه تردى حالة الواقع العربي.
الماضي كآلية رمزية لمقاومة اختراق الهوية: في ظل السرعة المذهلة لتطبيقات الشبكات الاجتماعية والاتصالات الرقمية، والقدرة على نشر قيم تدعي أنها عالمية، تبلورت ضمن السياق الغربي خلال الفترات الأخيرة، وحاولت الثقافة المهيمنة تعميمها لتصبح كونية، لكن الملاحظات المباشرة لمضمون وممارسات التفاعلات عبر تلك الشبكات نجد أن معظمها يركز على الجنس، والتعارف، والارتباط، والحرية المبتذلة، وغيرها من المضامين المضادة للعادات والتقاليد والقيم للثقافات المحلية، الأمر الذي أدى الى ردود فعل سلبية، حيث وجدنا بعض المجتمعات تسعى إلى استلهام صور الماضي كمقاومة رمزية ، ففرض قيم غربية ينتج ردود فعل مضادة ، وأحيانا يوقد شرارة التفرد الأعمى، لأن هيمنة نموذج ثقافي واحد، لا يؤدي إلى حل المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما قد يؤدي إلى العكس إلى ظهور أيديولوجيات ومفاهيم عرقية متعصبة، مما يؤجج التعصب العرقي والديني والثقافي. إن المجتمعات التقليدية ستتوجه إلى أحضان الماضي، وتجعله هدفا لها، وتعمل على انتقاء صورة خاصة منه تعزز فيها أوضاعها، وهذا واضح الآن في انتشار وإشاعة الأفكار والميول المذهبية والطائفية والعرقية والعشائرية الضيقة، كرد فعل للتحولات العالمية الجائرة. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال رصد حالة وسائل الاتصالات الحديثة، حيث أتاحت شبكة الاتصالات الحديثة للجميع إمكانية إنشاء منابر – فضائية وشبكية - تبشر بالانتماءات الطائفية المغلقة التي يسود فيها الرأي المطلق، ونزعة تكفير الآخر، وذلك في محاولة لتشكيل صورة ثابتة وضيقة الأفق عن الماضي.

محاولات أوربا للحفاظ على الهوية الأوربية مقابل العرب:
إن الاتحاد الأوربي الذي يسعى حاليا لترسيخ هوية أوربية جديدة سياسيا واقتصاديا ونقديا يرفض بشدة العولمة الثقافية التي تريد الولايات المتحدة فرضها عليه وعلى العالم أجمع ويتشبث بالخصوصيات الثقافية الأوربية. وأفضل تجلي لذلك ما نجده في فرنسا التي اتخذت مثلا إجراءات قانونية صارمة للمحافظة على لغتها الفرنسية، وسنت قانونا يحظر استخدام اللغة الإنجليزية في وسائل الإعلام وفي التجارة وفي المحلات التجارية وأسماء الماركات والعناوين المستخدمة فيها. على الرغم من تأكيد أوربا على خصوصيتها الثقافية، نجد بلداننا العربية تميل إلى تقمص ثقافة الغرب وهويته، رغم محاولات بعض الدول العربية إلى التمسك بهويتها ورموزها الثقافية، حيث نجد نظمنا التعليمية تميل إلى إتباع أساليب الغرب في التعليم، والتحول نحو التعليم باللغات الأجنبية، وإصرار الجامعات العربية على التدريس باللغة الانجليزية ( حتى التخصصات الإنسانية ). علاوة على ذلك، تخلي شبابنا هويتهم الثقافية العربية الإسلامية حين يتكالبون على تعلم اللغة الإنجليزية دون العربية، ويرتدون الجينز والكاسيكيت الأمريكي وأكل الهامبورجرز، وإصرار الكثيرين على استخدام اللغة الانجليزية في التواصل العام، وفي الوقت الذي يشهد فيه العصر الحديث شعوبا تعتز بلغتها التي كانت منقرضة أو شبه منقرضة يبدو إهمالنا للغة العربية على مستوى العلم والتعليم والتطوير.