الجمعة، 24 أبريل 2009

حوار الحضارات

حوار الحضارات

مقال منشور بالنشرة الإعلامية " المسار " - دائرة العلاقات العامة والاعلام- جامعة السلطان قابوس، 2006

شهد العالم في الخمس وعشرون سنة الأخيرة العديد من التغيرات الفكرية التي دفعته إلى حقبة جديدة وشكل غير مسبوق من الصراعات والحروب والتدمير وتحول العالم عبر انهيار سور برلين وسقوط الفكر الاشتراكي، بعد أن كان ثنائي الأقطاب [ بتوازن القوى بالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية إلى عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الأمريكية التي تشهد نهضة حضارية قوية خاصة في مجالات العلوم المختلفة والتكنولوجيا، ولعل هذا المشهد لا غرابة فيه. إن وضع تصور حاكم للعلاقات بين الحضارات المختلفة كان الهم الشاغل للعديد من المفكرين والسياسيين والمنشغلين بتحليل الوضع الراهن للمنظومة العالمية حتى يمكن التوصل للفهم الناضج الواعي لطبيعة الأحداث ومن ثم محاولة الانتفاع بها ودفعها في الاتجاه المفيد النافع للبشرية، وبناء على ذلك فقد انطلقت العديد من النظريات تحاول جاهدة فهم وتحليل الواقع ومحاولة توجيه دفته إلى ما فيه النفع لعموم البشرية وظهرت أقوى تلك الأطروحات أو بالأحرى ما كتب له العيش.
قبل ما يقارب من عقدين من الزمان والعالم ما زال في ذلك الوقت يتعامل بواقع ثنائي القطب إلى حد ما خرج المفكر الفرنسي روجيه جارودي على العالم أجمع بنظريته الرائدة ومشروعه للجمع بين الحضارات المختلفة على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى شعوب الأرض وسماه بـ' حوار الحضارات ' ولكن مشروعه كان يتسم بسمة أساسية ألا وهي النقد الشديد للهيمنة الغربية والسيطرة الأمريكية حتى أنه بشر في ثنايا نظريته بزوال الغرب عموما لكن هذه الصيحة وأخواتها من جانب جارودي أو غيره من المفكرين والساسة الذين سعوا إلى وضع نظرية أو قاعدة تحكم وتفسر واقع المجتمع العالمي لم تجد الصدى اللائق بها في ذلك الوقت لواقع الصراع القائم والمسمي بالحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بدأت نظريات أخرى بالصعود إلى السطح والظهور لتفسير كيفية تعامل القطب الأحادي مع العالم في ضوء الواقع الجديد ومن هذه النظريات ما خرج به الأمريكي الجنسية الياباني الأصل 'فوكوياما' بما يسمى ويعرف بنظرية نهاية التاريخ تلك النظرية التي انتشرت سريعا لتتداعى بسرعة أكبر، ومفادها تصوير انتصار الرأسمالية على الأرض أنها نهاية التاريخ وأن الإنسان الأمريكي هو من وصل إلى أقصى مستوى حضاري ممكن، وبالتالي فهي نظرية نهاية الإنسان والتاريخ. ثم تلا هذا المشهد مشهد آخر في أواخر صيف 1993 م وكانت أول شرارة أشعلت المشهد مقالة نشرت في صحيفة [ الشؤون الخارجية ] للمفكر الأمريكي الشهير "صامويل هتنجتون" تحت عنوان "صدام الحضارات" والتي حاول فيها قراءة مستقبل العالم المعاصر وقرر فيها أن الصراع في خلال القرن القادم سيكون صراعا بين الحضارات وليس صراعا اقتصاديا أو أيدلوجيا وقد حدد في نظريته تلك سبع حضارات أساسية يتوقع أن يلتهب بينهم الصراع ولا بد في هذا الصراع من زوال البعض وخضوع البعض الآخر لهيمنة الأقوى؛ وقرر في النهاية أن الحضارات المتوقع لها الاستمرار حتى النهاية لما تحمله من إمكانيات ومقومات للبقاء هي ثلاث حضارات: الإسلامية، والغربية، والكونفوشيوسية (حضارة الصين). وحذر العالم الغربي من تحالف الحضارة الإسلامية مع نظيرتها الكونفوشيوسية في إشارة إلى إمكانية حدوث تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية.
لقد اثارت مقالة هتنجتون عاصفة من الانتقادات والجدل حول المفاهيم التي تضمنتها؛ وقابل هتنجتون ذلك بالرد أنه على الرغم من إمكانية الاعتراف بوجود ثغرات في نظرية صراع الحضارات، إلا أن المعارضين والرافضين لهذه النظرية لم ينجحوا أن يقدموا بديلا في طرحهم يوازيها في الواقعية والوضوح وبأن نظرية صراع الحضارات وهذا من وجهة نظر هتنجتون بالطبع هي خير وأفضل تصور موضوع للمستقبل في القرن القادم.

ولعل من الجدير بالذكر ردا على دعوى هتنجتون أن أحدا لم يطرح البديل المناسب أقول لعل من المناسب في هذا المقام بيان أن العديد من المفكرين والساسة الذين عارضوا نظرية صراع الحضارات والفكرة القائمة عليها قد طرحوا لها بديلا قويا ألا وهي نظرية حوار الحضارات كوسيلة لتجنيب المجتمع ويلات الحروب والقتال.
وتم عقد وتأثيث العديد من المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية لترسيخ سياسة الحوار والتفاهم والتعايش السلمي بدلا من الصدام؛ وتبني العديد من الكتاب هذه النظرية، ودعوا إلى تنمية الحوار بين العالم الإسلامي والغرب حتى يمكن لكل طرف أن يتفهم الآخر ويتعايش معه وقد حددت الأمم المتحدة عام 2001 م عام حوار الحضارات وعينت مندوبا متخصصا لهذا المنصب. إلا أن أطروحة حوار الحضارات لم تخل من جدل شديد ونقد دائم مستمر حتى من جانب المفكرين المسلمين ولم يقف الجميع فيه على نسق واحد فهناك من هو رافض للفكرة من أساسها لعدم واقعيتها، فكيف ستتحاور مع من يهدم بيتك ويشرد أهلك في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي إلى فريق آخر مؤيد للفكرة على الإطلاق وداع لها بغض النظر عن الواقع الحالي للأمة وفريق ثالث لا يستوعب المعنى المقصود من حوار الحضارات بل يحتفظ كل فرد في الفريق الثالث بفهم خاص له لهذا المصطلح.

بعد تفجيرات 11 سبتمبر أصبحت العلاقة مع العالم العربي ـ الإسلامي الشغل الشاغل لمثقفي فرنسا والغرب بشكل عام. ويرى جان دانييل، رئيس تحرير مجلة «النوفيل اوبسرفاتور» ان المثقفين اتخذوا مواقف متباينة من هذه المسألة ليس فقط مؤخرا، وإنما على مدار القرنين الماضيين أيضا.
مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد إن ابتدأت الشعوب تتحرر من الاستعمار، راح عالم الانثربولوجي "كلود ليفي ستروس" يؤكد انه لا توجد ثقافة عليا وثقافة دنيا، وإنما جميع الثقافات متساوية وينبغي أن نحترم خصوصياتها واختلافها. وكلها تستحق لقب الحضارة. ولكن يبدو إن ليفي ستروس غيَّر رأيه مؤخرا عندما اعترف بمديونيّته ومديونية البشرية كلها لمخترعي الفكر النقدي أو العلمي في أوروبا. وقال من المستحب أن تتوصل جميع الشعوب إلى مرحلة الفكر النقدي أو التنويري. وأما "فرانسوا فوركيه" أستاذ الاقتصاد في جامعة السوربون فيرى العكس. فهو يعتقد أن صموئيل هانتنجتون على حق عندما يتحدث عن صراع الحضارات. فالتفجيرات التي حصلت في نيويورك وواشنطن كانت موجهة فعلا ضد حضارة الغرب. وهي تهدف في ما وراء ضرب أمريكا إلى إنهاء الهيمنة الغربية على العالم.
توجد إمكانية لتفادي ذلك؛ وهي تتمثل في بلورة قيم كونية مقبولة من قبل جميع شعوب الأرض وليس فقط من قبل الغرب. ففلسفة الغرب المتمثلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وقوانين السوق لم تعد قادرة على فرض نفسها كفلسفة كونية تنطبق على العالم اجمع؛ وإنما ينبغي على البشرية أن تبلور فلسفة أوسع منها واشمل. وأرى أن الرؤية الجديدة يمكن أن تستمد مبادئها من جميع التراثيات الثقافية وليس فقط من تراث الغرب. فالإسلام مثلا يحتوي على تراث روحي عظيم ونحن نجهله. وتتسم الثقافات ببعض العوامل المستقرّة والمستديمة وأخرى حيويّة وعرضيّة.. ففي معظم الحالات تنمو الثقافات في فضاءات محدّدة تتشابك فيها عوامل جغرافية وتاريخيّة وعرقية لتنصهر فيما بينها. وهناك بعض المبادئ التي تؤدى إلى تناغم وتوحد الثقافات مع بعضها بعضا في بناء عالم متعاضد وحضارة تكرّم الإنسان مهما كانت انتماءاته القومية أو الدينية، من بين هذه المبادئ:
أوّلا : التضامن بين الأشخاص والمجتمعات في جميع الميادين الاقتصادية والثقافية والروحية.
ثانيا : العدالة التي تضمن لهؤلاء الأشخاص وهذه المجتمعات احترام الحقوق وإنماء الحضارة.
ثالثا : السلم والسلام اللّذان يوجبان على الجميع حلّ النزاعات بوسائل الحوار والتفاهم.
رابعا : الحياة التي لا يستهان بها لأنها مقدّسة تحتاج إلى حمايتها أمام التجارب الفاسدة.
خامسا : التربية على المسؤولية الشخصيّة والجماعيّة تجاه مقتضيات التعايش السلميّ.
ولابدّ أن نؤكد في هذا الصدد أن مقولة (صدام الحضارات) تتناقض كليّا مع قيم عصر التنوير, الأساس المتين للحداثة الغربيّة. إن العودة إلى عصر التنوير لا تعني العودة إلى الماضي, وإلى التاريخ, وإنما تعني التذكير بالقواعد الصلبة التي شيدت عليها الحداثة والمتمثلة أساسا في المبادئ الآتية:حريّة الإنسان؛ الحداثة تعني في نهاية الأمر تحرير التاريخ من مقولة الحتميّة؛ وتعني أيضا فصل الدين عن الدولة.
هناك أمثلة جيدة على أكمال بعض الحضارات لبعضها البعض على مدار التاريخ؛ لنأخذ مجالا واحدا فقط نستشهد من خلاله على ذلك؛ ألا وهو مجال العلم. فالعلم ليس حكرا على حضارة بعينها، والعلم الحديث تحديدا الذي يشير البعض إلى أنه من إنجازات الحضارة الغربية، في عصر التنوير؛ نجد هنا أن تطور مسيرة العلم منذ العصور القديمة قد ساهمت جميع الحضارات في انتاجة، فالحضارات القديمة جميعها( المصرية القديمة- البابلية- اليونانية- الصينية- الرومانية) قد أضافت إلى التراث العلمي الكثير، مهد لبناء العلم الحديث. وعلى ذلك فإن أوربا لا تحتكر العلم الحديث، ذلك لأن حضارتها بنيت على علم العرب والمسلمين، وما أنتجوه من قوانين رياضية، أو فلكية، أو كيميائية، إضافة إلى علوم اللغة والفلسفة وغيرها. المهم إن الحضارارات أجمع قد ساهمت ومازالت تساهم في بناء مسيرة العالم والبشرية. كل حضارة ساهمت بإنجاز ما تفاعل مع إنجازات الحضارات الأخرى لإنتاج الواقع الذي نعيشه الآن بحلوه ومره.