الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

مواقع التواصل الاجتماعي والتربية


مواقع التواصل الاجتماعي واستثمارها في عملية التربية

أ.د. عبدالوهاب جودة

تعد وسائل الاتصال بين الأفراد  والجماعات من الأدوات الأساسية للتفاعل الاجتماعي، وتتنوع تلك الوسائل وفق حاجة الموقف الاجتماعي وظروف التفاعل فيه. لقد أبدع الإنسان عبر مسيرته الحضارية ابتكارات واختراعات عدة، ساهمت بشكل أو بآخر في عملية التفاعل الاجتماعي المتواصل بين الأفراد؛ إذ قربت المسافات، وذلَّلَت الصعاب من أجل خلق موقف اجتماعي يسمح للأفراد بالتفاعل فيما بينهم, ومن ثم بلورة اتجاهاتهم وقيمهم وتصوراتهم المختلفة حيال ظواهر الكون، دعماً لصور الارتباط الذي يحصل بينهم.

وقد شهد القرن الماضي ثورة معلوماتية عملاقة، ساهمت في إيجاد تقنيات اتصال حديثة، ساعدت على تقريب مجتمعات العالم وربطها في منظومة كونية واحدة. وقد تبلورت تقنيات الاتصال الحديث في قنوات عدة تتمثل في: تقنية البث الفضائي، وشبكة الانترنيت، والهاتف النقال مع تطور التطبيقات التي تدعمها، الأمر الذي  أثر وبشكل فعَّال في إعادة صياغة أنماط التفاعل الاجتماعي فيما بينهم، وتغيير صور العلاقات الاجتماعية، ومن ثم تشكيل نمط جديد للتصورات والأفكار لدى الأفراد حيال الظواهر الإنسانية.

لقد ساعدت التطورات الحاصلة في تكنولوجيا الاتصال والاعلام على زيادة التواصل بين الأفراد على مستوى كافة المجتمعات بمختلف ثقافاتها وتوجهاتها الحضارية، متخطية بذلك كافة الحدود السياسية والثقافية التي فرضتها على شعوبها، والعزلة الحضارية التي كانت تعيشها مختلف الجماعات البشرية. لقد أحدثت شبكة الانترنت بتقنياتها المتسارعة بتطبيقاتها المتقدمة عبر الحاسوب، وكذا الهواتف الذكية درجة عالية من التأثير فاق ما أحدثته وسائل الاتصال والإعلام التقليدية، حيث تضم الانترنت ملايين المواقع التي تتناول كل مجالات الحياة من سياسة واقتصاد وسياحة وأديان وتعارف وغيرها، يجري خلالها أشكال متنوعة للتفاعل الاجتماعي، واضحت مواقع التعارف والتلاقي على رأس الوسائل الرقمية الأكثر شعبية بين أوساط الشباب، والمعروفة بشبكات التواصل الاجتماعي من بينها: ماي سبيس، تويتر، فايس بوك، علاوة على أدلة المواقع الأخرى، والتطبيقات الداعمة للاتصال مثل: الواتس آب، فايبر، سكاي بي، وغيرها من أدوات التواصل. وتعد جميعها آلية للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين شعوب العالم اختلاف لغاتهم وجنسياتهم، ومن ثم فهي اضحت من أهم الوسائط المؤثرة في عملية التربية والتنشئة الاجتماعي للأطفال.

لقد طور التقدم التقني للإنترنت وتكنولوجيا الموبايل أشكال جديدة من التفاعلات الاجتماعية، والقدرة على صيانة شبكات المتفاعلين الموزعة على نطاق واسع، وقد أشار (Lugano, 2008: 2 ) إلى أن هذه الأدوات يمكنها أن تستبدل، أو تعيد صياغة التفاعلات المباشرة وجها لوجه، مؤكدا على أن التواصل الاجتماعي غالبا ما يستند على التفاعل الاجتماعي المباشر، أو البحث عن المستخدمين طبقا للمعايير الاجتماعية.

ومع تعاظم تقنيات الانترنت والاتصالات الخلوية عبر الهاتف المحمول ، ومن ثم التواصل والتشبيك بين الأفراد في كل مكان مع بداية القرن الحادي والعشرين، أصبح الهاتف المحمول الآن وسيلة رئيسية للاتصالات عن بعد، واتسع استخدامه حيث صار شعبيا، لقد أصبح الجميع مشغولا بالهاتف المحمول، سيما بعد تعاظم وظائفه بعد أن أدخلت عليه تطورات تقنية هائلة، وظهور أنماط متطورة منه مثل: I phone, I pad, Galaxy...act بأجيالهم المختلفة، استطاعت استيعاب كافة الوظائف والخدمات التي يقدمها جهاز الحاسوب المتطور، وأصبح الهاتف النقال – عند البعض – بديل كاف عن الكومبيوتر، لاسيما ما يتمتع بسهولة حملة واصطحابه في كل مكان، وتأدية كافة الخدمات والإشباعات للمستخدمين من خلاله، الأمر الذي ساعد على انتشار استخدامه بين كافة شرائح المجتمع بكل مستوياتهم العمرية، فلقد وسعت برامج الشبكات الاجتماعية النقالة Mobil Social Software ( Mososo ) عمليات التشبيك الاجتماعي لبيئة الموبايل، ومن ثم أصبح عنصر فاعل في عمليات التنشئة والتربية للطفال، لاسيما.

مع اتساع نطاق استخدام الانترنت النقال، وانتشاره بين مختلف الشرائح، نال موضوع الشبكات الاجتماعية النقالة اهتمام الأكاديميين والإعلام، واسواق الهواتف وعلاقتها بالمجتمع المحلي، وانعكاساتها على عملية التربية. وعلى الرغم من هذا الاهتمام إلا أن عمليات التشبيك والتفاعل الاجتماعي الافتراضي عبر الشبكات الاجتماعية يؤثر على عملية التربية والتغير الاجتماعي. كما أن التفاعل والتواصل الشبكي النقال يسهل من عملية التنسيق للحياة اليومية بين الجماعات الصغيرة؛ ذلك أن برامج الشبكات الاجتماعية وسيلة مهمة للتغير الاجتماعي.

الشبكات الاجتماعية الافتراضية لها القدرة على تشكيل سمات الشخصية الخمسة وتأثيراتها على تعديل السلوك. كما  أن  مواقع الشبكات الاجتماعي لها أهمية في عملية التعلم وإمكاناتها في تنمية الشخصية الشابة. كما ناقش البعض تأثيرات مواقع الشبكة الاجتماعية الافتراضية على كل من الفرد والمجتمع بصورة بنيوية، حيث تمكن الأفراد من اكتشاف المعلومات، والتواصل مع الآخرين ومشاركتهم تلك المعلومات، ولها القدرة على: انتشار المعلومات ت بصورة سريعة،  وترتيب الاجتماعات واللقاءات، كما أن التطبيقات المتطورة لها القدرة الكبيرة على تنظيم الجماعات، والمشاركة في العمل الجمعي، وتعبئة الأفراد، والانضمام الى المجتمع المدني، وزيادة المشاركة الاجتماعية، وتنمية قيم التطوع عند افراد المجتمع، والقدرة على تنسيق العمل الاجتماعي وحراكه.

كما أشارت بعض الدراسات الأجنبية الى العلاقة بين استخدام الطلبة لتطبيقات التواصل الاجتماعي وتنمية رأس المال الاجتماعي، لدى طلاب جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، واكتشفوا أن كثافة استخدام الطلاب لموقع التواص الاجتماعي Face book أدى إلى تكوين اتجاهات وسلوكيات ايجابية، أدت إلى تحسين راس المال الاجتماعي للأفراد؛ إذ أن كثافة الاستخدام ساعدت على ارتفاع درجة الرضا عن حياة الفرد، وزادت من الثقة الاجتماعية، وعمقت الارتباط بمؤسسات المجتمع المدني والمشاركة السياسية.

§        التواصل الاجتماعي وكيفية الاستفادة في تربية النشء

لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي اليوم من المؤسسات المهمّة التي تقوم بدور مهم في تربية النشء وإكسابهم عادات وسلوكيات صحيحة وأداة مهمة من أدوات التغيير الاجتماعي وقد اهتمت المؤسسات الاجتماعية والتربوية بوضع البرامج والأنشطة للطلاب، وذلك بقصد الاستفادة من إشغال وقت الشباب بما يفيدهم، علاوة على زرع جوانب وأمور مهمة وتنميتها في شخصية الطالب. إن العملية التعليمية ليست مجرد عملية تلقين المعلومات والمعارف للطلاب فقط ، وإنما هي عملية مفيدة لبناء شخصية الطالب من جميع النواحي، وبث روح المسؤولية الاجتماعية والاعتداد بالذات، وتحمل المسؤوليات في الحياة ، ومحاولة إيجاد التوازن المتكامل في جميع جوانب الشخصية. وقد تنبه التربويون لأهمية مواقع التواصل الاجتماعي ودورها في صقل شخصية الشباب وتنميتها وبخاصة أن الدراسات التي أجريت في عام ( 2010 ) دلت نتائجها أن عدد المستخدمين العرب لموقع "الفيس بوك" يصل إلى ( 15 ) مليون شخص، وقد دلت الدراسات الحديثة أن عدد المستخدمين العرب يزداد بمعدل مليون شخص كل شهر، ومن المفارقات اللافتة أن عدد مستخدمي "الفيس بوك" العرب يفوق عدد قراء الصحف في العالم العربي.

وقد يرى البعض أن رعاية الشباب تتمثل في توفير ألوان من النشاط أو الخدمات أو إقامة المؤسسات الرياضية والاجتماعية لشغل وقت الفراغ، بيد أن هذه الرعاية لا تمثل سوى جزءً من احتياجات الشباب في ظل ما توفره التكنولوجيا الحديثة من إمكانات ضخمة يمارس من خلالها الشباب نشاطات مختلفة تؤثر في سلوكهم وأنماط شخصياتهم، فالسلوك الإنساني عبار ة عن العمليات التي تتم بين الفرد بكل مكوناته العقلية والنفسية والاجتماعية والوسط أو البيئية بكل ما فيها من ظروف ومواقف وعناصر اجتماعية وثقافية. وهو أساس التفاعل بين الأفراد والجماعات والمجتمعات.

إن الشاب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي يستفيد من الأنشطة والبرامج المتاحة له، ويتفاعل مع غيره من الناس من خلال هذه الأنشطة المتاحة، وبذلك يتبادل أنواعًا السلوك الإنساني مع غيره فيفيد ويستفيد من غيره، ويتعلم أنواعًا من السلوك، ويكتسب خبرات إيجابية من خلال ذلك التفاعل والأنشطة، ويحاول أن ينمي لنفسه الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على الذات من خلال هذه العمليات والأنشطة وهو يقوم بذلك من خلال المشاركة مع الآخرين من الجماعات الأخرى على صفحات الفيس بوك. ذلك أن، الجماعة عبارة وحدة اجتماعية مكونة من مجموعة من الأفراد تربط بينهم علاقات اجتماعية، ويحدث بينهم تفاعل اجتماعي متبادل فيؤثر بعضهم في بعض، كما يعتمد بعضهم. وهنا يتضح أهمية التفاعل مع الآخرين من خلال الأنشطة المختلفة في الجماعات التي يمكن تكوينها من مواقع التواصل الاجتماعي وتتخطى الحواجز والحدود حدوث التأثير والتأثر واكتساب الخبرات وتنمية المسؤولية في الذات من خلال هذه الأنشطة والتفاعل بين الأفراد.

إن النشاطات الاجتماعية تعد ضرورة ملحة تتطلبها مراحل الطفولة والشباب بصورة خاصة، فهي تعد مصدرًا من مصادر الكشف عن مواهب الشباب وإمكانياتهم وميولهم في شتى مجالات الأنشطة الثقافية والاجتماعية، فالتنمية لا يمكن أن تتم بدون إعداد الشباب الذي هو أداة للتنمية ، فبقدر ما يتوفر له من صحة وحيوية وقدرة وابتكار ، وإبداعية ومهارات مهنية وتقنية ، وإحساس بالمسؤولية بقدر ما يتوفر للمجتمع القدرة الذاتية على النمو والتطور.

وقد أكدت البحوث السوسيولوجية والتربوية أن شغل أوقات الفراغ بصورة إيجابية وبطريقة مخططة يساعد كثيرًا في تعديل السلوك لدى المستخدمين ، ويساعد على تربية الناشئ من جميع جوانبه النفسية والاجتماعية والروحية والسلوكية والعقلية ، كما أن استغلال أوقات الفراغ لديهم في الأنشطة المختلفة يحقق ميولهم وذواتهم ، وتشبع بعض حاجاتهم النفسية كالحاجة إلى التقدير، والحاجة إلى الحب، والحاجة إلى الانتماء واللعب والمرح وتنمية المهارات والهوايات المختلفة ، وصقل المواهب، وتحقيق القدرات وتنميتها وإكساب كثير من الخبرات المفيدة. وتعد الأنشطة المختلفة التي يمارسها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي سواء أكانت أنشطة ثقافية أو اجتماعية أو فنية من الأمور المهمة جدًا لإيجاد وتنمية المسؤولية الاجتماعية لدى الأطفال والشباب وتنميتها، وإيجاد المواطن الصالح من خلال غرس وتنمية القيم والمعايير الاجتماعية في نفوسهم وتنميتها.

لقد أشارت الدراسات الحديثة لكاتب هذا المقال أن التفاعل الاجتماعي عبر تقنيات الواصل الاجتماعي قد أدى الى عدة صور من الانعكاسات الايجابية على الشخصية، كان أهمها:

§          ارتفاع التأثيرات الناتجة عن التفاعل الاجتماعي الشبكي عبر مواقع التواصل الاجتماعي على جوانب الشخصية ، من حيث:

- مرونة الشخصية ، وقدرتها على التفاعل الانساني عبر الفضاء الإلكتروني، وامتلاكها لأدوات التواصل والاتصال الإنساني مع الآخر ضمن الثقافات المختلفة، بالإضافة إلى القدرة على التفاهم والتعبير عن الذات.

§          التأثير الإيجابي لمواقع التواصل الاجتماعي في صقل قدرات الشباب الجامعي على التواصل والتفاهم الحضاري، وتعميق قدراته على احترام الري والرأي الآخر، والتعاون المثمر مع الآخرين وفي هذا السياق نوصي باستثمار هذه التقنيات في التربية و التوعية من خلال هذه الشبكات، وبث الأفكار الإيجابية التي تدعم هذا الاتجاه، وتشجيع الشباب على إقامة الحوار البناء؛ لما له من عظيم الأثر في بناء الشخصية السوية.

§        تدعيم أواصر الانتماء الوطني، وتحديد ملامح الهوية الثقافية للشباب، ومن ثم توطيد العلاقات بين ابناء الوطن الواحد، سواء كانت العلاقات مباشرة أو غير مباشرة، ومن هذا المنطلق يجب استثمار هذه المواقع في تأكيد الهوية الثقافية للشباب وتعضيد روح الانتماء الوطني.

§        تثري مواقع التواصل الاجتماعي منظومة قيم الشباب نحو المشاركة الاجتماعية وتدعم قيم التطوع لديهم، لذا يجب تطويرها بحيث تعتمد كقناة ووسيلة تربوية أساسية لتنمية روح التطوع والمشاركة الاجتماعية، وأن تقدم لمجتمع الشباب بوصفها آلية لبث الفكر التطوعي، والحث عليه، مع تطوير قدرات الطلاب ودعم إمكاناته للمشاركة بفاعلياته التطوعية من خلال هذه الشبكات.

§        تساعد مواقع التواصل الاجتماعي بما تتضمنه من خدمات متنوعة من - للمعارف، والأخبار، والمعلومات، والنشر، والتدوين، والتعليقات على المادة المنشورة- على تنمية الوعي الاجتماعي لدى الشباب بمجريات الأحداث على المستويين المحلي والدولي، كما تساعد على مناقشة الكثير من القضايا التي تتعلق بتلك الأحداث بالتعليق والمشاركة في صياغتها، وهو أمر تزداد معه الحاجة الى دعم هذه المواقع بالصحيح والأخبار والمعلومات دون زيف أو مغالاة.

§        يساعد التفاعل الاجتماعي عبر مواقع التواصل الاجتماعي على تضاؤل مختلف أشكال التمييز الاجتماعي؛ نتيجة تفاعل الجميع حول قضايا الاهتمام، دون تمييز؛ لذلك، يجب استثمار تلك المواقع الشبكية في تفيل مختلف أشكال الحوار بين الفئات الاجتماعية، وتوجيه الشباب وتوعيتهم بأهمية مناقشة القضايا المطروحة في تلك المواقع؛ وذلك بهدف إذابة كافة أشكال التمييز بين البشر على مختلف مستوياتهم العمرية والنوعية والعرقية.

§        ساهمت التفاعل الاجتماعي عبر مواقع التواصل الاجتماعي في إثراء راس المال الاجتماعي وتنميته لدى الشخصية الشابة؛ نتيجة انضمام الشاب الى مجموعات شبكية متنوعة.

§        التخطيط لبرامج توعوية الكترونية، تهدف إلى تشكيل ثقافة الكترونية افتراضية لدى ابناء الأمة، تتسم التأكيد على الهوية الثقافية والدينية للمجتمع، وتحذرهم من الأخطار الناتجة عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا عموما، ولمواقع التواصل الاجتماعي خصوصا.

الاثنين، 16 يناير 2012

التشبيك الاجتماعي وأزمة الهوية

الشبكات الاجتماعية وأزمة الهوية
في ظل تطور تكنولوجيا الاتصال والتواصل الاجتماعي

عبدالوهاب جودة الحايس
قسم علم الاجتماع – كلية الآداب والعلوم الاجتماعية

تمهيد
شهدت السنوات الأخيرة اهتماما بالغا حيال موضوع الهوية من قبل الباحثين والمفكرين . وقد عالج الفكر الفلسفي الإغريقي منذ البداية مسألة الهوية باعتبارها أحد مبادئ المنطق، وأصبحت إشكالية تميز كل ثقافة بالذات كما تعدّت ذلك لتصبح أزمة تعيشها الجماعات الثقافية في صميمها على حد قول " كلود ليفي شتراوس " وتقع مسألة الهوية اليوم على مفترق طرق، وأصبحت تمثل " الداء الجديد" الذي يميز عصرنا. ويمثل مفهوم الهوية معضلة معرفية أمام مختلف الباحثين والمفكرين، لاسيما الباحثين والمفكرين العرب.
ويعد مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والنقاش والتشابك والتداخل، الأمر الذي يؤدي دائما إلى طرح سؤال الهوية. إن التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتطور التكنولوجي الكبير الذي أصبح يهيمن على حياة البشر أدى إلى خلخلة الهويات الساكنة. ومن الصعب اختزال مفهوم الهوية في معنى واحد؛ لأن الهوية باعتبارها ثقافة حية قادرة على دمج الاختلافات التي تشكل سمو الإنسان. إن الثقافات تتميز بالتنوع، حيث نجد ثقافة تمتلك القدرة على الانفتاح والاستقبال والضيافة، وهناك ثقافة أخرى تفرز مقاومات وعناصر للاستبعاد والاستقصاء، والتي تبرز المشكلة الجوهرية " مشكلة الاعتراف بالأخر " وتقبل اختلاف الغير، الأمر الذي يؤدي إلى غياب التعاون وبروز الصراع.
وعلى المستوى العربي، تزداد معضلة الهوية، حيث يتأرجح المجتمع العربي بين الدعوة إلى هويات مختلفة، فتارة الدعوة إلى هوية عربية، وتارة أخرى إلى هوية إسلامية، وأحيانا هويات قطرية، وتنطلق في معظمها من مرجعية سلفية أو راديكالية، وقد أدى ذلك إلى قيام الدولة القطرية إما باحتضان تلك الهوية أو التصدي لها. إن القول بأن المجتمعات العربية والإسلامية تختلف جذريا عن الغرب من حيث افتقارها إلى ما يسمى بروح المجتمعات المدنية الديمقراطية قد أعاد التأكيد على ضرورة إعادة اكتشاف عناصر الذات العربية وأفاق تفاعلها الاجتماعي والسياسي عن طريق تقوية التماسك الاجتماعي العربي وتفعيل التنمية وتخطي السلوكيات الإثنية والطائفية والدينية والعشائرية.
الهوية بين الوحدة والتنوع :
لقد أثبتت التطورات التاريخية، أن الانتماء القومي والإثني والديني من أقوى الانتماءات وأكثرها صمودا، لذلك فمن الصعب تقبل فكرة انصهار الجماعات في بوتقة واحدة. إن الانتماء إلى جماعة محددة يعني ضمنا وجود جماعات أخرى، أي أنه لا يمكن أن توجد هوية جماعية معينة، إلا بوجود هويات أخرى، وتؤكد هذه المقولة أهمية الحدود بين الجماعات، لاسيما التي تتشكل على الأسس نفسها ( قومي، اثني، ديني .... الخ)، فالفرد يعرف نفسه بطريقة تضعه داخل حدود جماعة معينة.
جوانب الهوية: علاوة على ما سبق، تتضمن الهوية وجهين، الأول: الثابت، والثاني: المتغير. فهناك ثوابت ثقافية يصعب تغييرها وتحتفظ باستمراريتها عبر الأجيال وهي مكتسبة، وهناك عناصر ورموز ثقافية قابلة للتغير والإضافة والحراك. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحالة الأكثر شيوعا وتكراراً هي الثبات والديمومة.
مؤشرات تحديد الهوية الوطنية: المؤشرات الدالة على الهوية الوطنية هي: مجموعة الخصائص المتعلقة بالإنسان والتي يقدمها للآخرين ليعبر بها عن هويته ووطنيته وانتمائه لجنسيته وهويته.ومن هذه المؤشرات والدلالات للهوية الوطنية: مكان الولادة، وروابط الأسلاف والأجداد، والانتماء القبلي، والالتزام بالعادات والتقاليد والأعراف، والالتزام بالقوانين، ومكان الإقامة، والالتزام بالزى التقليدي، وطول فترة الإقامة، والأسماء والألقاب، والنشأة والتربية،و اللهجة، والشكل والمظهر الخارجي. وتستعمل تلك المؤشرات للهوية عندما ينظر الناس إلى غيرهم ويحاولون التعبير عن هويتهم الوطنية عن طريق استخدام هذه المؤشرات، كما يمكن استخدامها ضمن الوطن الواحد وبين إفراده بهدف تمتين الروابط الوطنية والثقافية وزيادة التماسك والحس بالهوية الواحدة والمصير المشترك، ومن ثم تعزيز الانتماء.
وظائف الهوية
تتمثل أهم الوظائف للهوية في المجتمعات فيما يلي: 1- ضمان الاستمرارية التاريخية للأمة إذ لا يمكن التشكيك في انتماءاتها. 2- تحقيق درجة عالية من التجانس والانسجام بين السكان في مختلف جهات الوطن الواحد. 3- تمثل الهوية الجنسية والشخصية الوطنية التي تحافظ على صورة الأمة أمام الأمم الأخرى، وذلك من خلال الحفاظ على الكيان المميز لتلك الأمة

تكنولوجيا الاتصال والتواصل الشبكي وأزمة الهوية

نحن نعيش الآن مرحلة ما بعد العولمة، حيث وصل النموذج الرأسمالي العالمي خلال الآونة الأخيرة إلى مستوى الهيمنة على كافة اقتصادات الدول ونظمها الثقافية، مستخدما الشركات العملاقة والمتعدية الأوطان، ومستندا على كافة الآليات التي دعمتها الثورة التكنولوجية في مجال الاتصال والتواصل الإنساني. لقد شهدت تلك المرحلة تطورات متسارعة في تقنيات الاتصال والتواصل الإنساني، إلى جانب التغيرات السريعة – اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا - ، ولعل أخطر النتائج المترتبة على ما بعد العولمة وما أفرزته من تداعيات، تلك المتصلة بمخاطر الاقتلاع الثقافي والخوف من فقدان الهوية لدى العديد من الشعوب والأمم، وما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية ( اجتماعية وأخلاقية ) على الإنسان العربي. فما يحدث منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي من تحول نحو ثقافة تعتمد على الصورة والإشارات والنصوص المرئية على الشاشات الإلكترونية الدائمة البث، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الاتصال عبر الانترنت، عززتهها التطورات التقنية للتطبيقات المتنوعة للاتصال والتواصل الاجتماعي، سواء عبر أجهزة الحاسوب، أو عبر الهواتف النقالة بأجيالها المتعاقبة القادرة على تصفح مواقع الشبكات الاجتماعية. وقد أصبحت تلك الهواتف النقالة متاحة لدى كافة الشرائح الاجتماعية بمختلف أنماطها، الأمر الذي أدى إلى تشبيك العالم أجمع.
إن التطورات التقنية للتطبيقات المتعلقة بالتواصل الاجتماعي، ( الفيس بوك، تويتر ، ماي سبيس، تاجد، وغيرها من التطبيقات )وإنشاء المواقع الالكترونية، وأدلة المواقع، ساعدت على نشر مختلف الرموز الثقافية لمختلف الأمم والشعوب، وساعدت على انفتاح مختلف الشرائح الاجتماعية بجميع مجتمعات العالم على بعضها البعض والإطلاع على رموزها وسماتها الثقافية، بل وتشبيك الثقافات المختلفة في العالم، و مكَّنت من نقل تلك الرموز الثقافية عبر المجتمعات بصورة أسرع من الآليات التي كانت متبعة سابقا، حتى أضحت الثقافة الآن " سلعة " تباع وتشترى في ظل الأوضاع الجديدة، ومن ثم " تشيؤها " والتقليل من قيمتها لدى بعض الجماعات. لقد بات ذلك التطور يشكل تهديدا لمنظومات القيم، والرموز الثقافية، وتغييرا في المرجعيات الوجودية وأنماط الحياة. لقد أضحت كثير من الثقافات والشعوب عارية تماما أمام تشبيك مجتلف الفئات العمرية والنوعية بجميع مجتمعات العالم - رغم أهمية ذلك الترابط والتواصل - إلى جانب تدفق المضمون الإعلامي المنبعث من مختلف وسائط الاتصال – الفضائيات ، الانترنت – والذي يحمل الرسائل والعلامات المشبعة بقيم ومضامين متنوعة ومغايرة، وتحمل معها أبطالا ورموزا جديدة تمتلئ بها مخيلة المشاهد بدءا بعارضات الأزياء ونجوم الكرة ، ووصولا إلى رموز الفن والسينما والأطعمة وأنماط السلوك وموضات الملابس، علاوة على أنماط جديدة من العلاقات الإنسانية والسلوكيات الاجتماعية، كأنماط الزواج المختلفة، والصداقة، والصحبة، وأشكال من التوجهات السلوكية الأخرى: كجماعات عبدة الشيطان، والبويات، والجنسية المثلية، وغيرها من التقاليد المتنوعة والمنتشرة كثقافات فرعية ضمن الثقافات العامة بالمجتمعات غير العربية.
إن من أخطار تداعيات تحولات ما بعد العولمة على الهوية العربية والإسلامية، ابتذال مضمون رسالة الثقافة الوافدة عبر الفضائيات ووساط الاتصال الرقمية المتنوعة: إدخال قضايا الجنس ووسائله في الإعلانات والدعاية عن السلع والمنتجات، واستخدام المرأة الفاتنة في الإعلانات وربطها بالإعلان عن المنتجات كالسيارات والشيكولاته ومعاجين الأسنان، بالإضافة إلى الانتشار السريع والفعال لأنماط القيم الغربية في الفن والملبس والمأكل والتسلية، والترويج للثقافة الاستهلاكية، الأمر الذي أدى إلى تشويه البنى التقليدية للأمم وتغريـب الإنسان، وعزله عن قضاياه الحقيقية، وتشكيكه في جميع قناعاته الوطنية والقومية والدينية، من أجل إخضاعه نهائيا للقوى المسيطرة، ومن ثم تشويه الهوية.
تمفصل ثقافي وتمييع الهوية:
لقد ساعدت وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي باعتمادها على ثقافة الصورة بدلا من ثقافة الكلمة – ساعدت - على اختراق الحدود الثقافية، وترويج الثقافة السائدة ذات الطابع الغربي، عبر آليات التأثير الإلكتروني ممثلة في مواقع الشبكات الاجتماعية، واكتساح الفضاء الثقافي وهيمنة الثقافات الغربية، مهددا الثقافات الفرعية، وثقافة الجماعات الصغيرة، ومن ثم الانزواء والاحتماء بالتاريخ والتراث، أو الذوبان في خضم الثقافة السائدة والضياع في تيارها الجارف. بالإضافة الى ذلك، ظهرت جماعات وأفراد تحاول الجمع بين الوافد والمحلي، حيث تتمثل الثقافة الوافدة بقيمها ورموزها مع الاحتفاظ ببعض الموز الثقافة الموروثة أو الأصيلة، لتشكل " تكوين ثقافي " خليط ومركب من أنماط متنوعة، تتعايش مع بعضها البعض، رغم هيمنة نمط معين منها، ويكون في الأغلب النمط الثقافي الوافد. ويطلق على هذا النمط " التمفصل الثقافي " - وفق رؤية سمير أمين -، الأمر الذي يساعد على تشويه الهوية المحلية، وتمييع رموزها الثقافية، وخلق جماعات مضاده تشكل ما يسمى بالصراع الثقافي.
لقد مكنت وسائل الاتصال الرقمي – في ظل تداعيات ما بعد العولمة - الدول المهيمنة اقتصاديا، ومن ثم ثقافيا بنظمها الاجتماعية والسياسية والثقافية من فرض ثقافتها على الشعوب العربية والإسلامية، والنفاذ بها إلي عقول شبابها لتشكيلهم ثقافيا ووجدانيا وفق النمط السائد، مستخدمة في ذلك كل صور الإغراء والتأثير، ومستعينة في ذلك بالآليات الفعالة لتلك الثورة الاتصالية والمعلوماتية العصرية، يظهر ذلك في تمثل الشباب وتقمصهم للأنماط الجديدة من الموضات، والأفكار والقيم، والأذواق، والعادات والتقاليد، والتي انعكست على كافة سلوكيات الشباب، مؤدية إلى تمييع الهوية المحلية.
وتتضح مؤشرات تميع الهوية الوطنية في طمس الخصوصية الثقافية، وصعوبة تمييز رموزها المحلية عن الوافدة، وعدم تفردها، وافتقادها لعناصر التنوع والأصالة- سواء في جوانبها الثقافية أو الأخلاقية أو الدينية -، حيث ترفع الثقافة الوافدة شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف، وهي بذلك تختزل العالم إلى مفهوم، وتتخطى حقيقته باعتباره تشكيلا متنوعا من القوى والإرادات والانتماء والتطلعات. ويؤدي التوحيد الذي لا يعترف بالتنوع إلى توترات وصراعات، تفجر نزعات التعصب والانغلاق ، والعودة إلى إحياء الخصوصيات الضيقة التي تتغذى من مرجعيات عرقية ودينية مغلقة، الأمر الذي يقود إلى الارتماء في أحضان الهويات الثابتة المغلقة. الاغتراب: نتيجة لحالة تشويه الهوية، بزوبان عناصرها المحلية في الثقافات الوافدة، تظهور حالة الاغتراب بأشكاله المختلفة، حيث يبحث الفرد لنفسه عن معنى وهمي للحرية يدفعه إلى الارتماء في ثقافة تخلق نجومية مفتعلة في أغلبها، وتخلق في النهاية إنسانا خاملا، يعززه تردى حالة الواقع العربي.
الماضي كآلية رمزية لمقاومة اختراق الهوية: في ظل السرعة المذهلة لتطبيقات الشبكات الاجتماعية والاتصالات الرقمية، والقدرة على نشر قيم تدعي أنها عالمية، تبلورت ضمن السياق الغربي خلال الفترات الأخيرة، وحاولت الثقافة المهيمنة تعميمها لتصبح كونية، لكن الملاحظات المباشرة لمضمون وممارسات التفاعلات عبر تلك الشبكات نجد أن معظمها يركز على الجنس، والتعارف، والارتباط، والحرية المبتذلة، وغيرها من المضامين المضادة للعادات والتقاليد والقيم للثقافات المحلية، الأمر الذي أدى الى ردود فعل سلبية، حيث وجدنا بعض المجتمعات تسعى إلى استلهام صور الماضي كمقاومة رمزية ، ففرض قيم غربية ينتج ردود فعل مضادة ، وأحيانا يوقد شرارة التفرد الأعمى، لأن هيمنة نموذج ثقافي واحد، لا يؤدي إلى حل المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما قد يؤدي إلى العكس إلى ظهور أيديولوجيات ومفاهيم عرقية متعصبة، مما يؤجج التعصب العرقي والديني والثقافي. إن المجتمعات التقليدية ستتوجه إلى أحضان الماضي، وتجعله هدفا لها، وتعمل على انتقاء صورة خاصة منه تعزز فيها أوضاعها، وهذا واضح الآن في انتشار وإشاعة الأفكار والميول المذهبية والطائفية والعرقية والعشائرية الضيقة، كرد فعل للتحولات العالمية الجائرة. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال رصد حالة وسائل الاتصالات الحديثة، حيث أتاحت شبكة الاتصالات الحديثة للجميع إمكانية إنشاء منابر – فضائية وشبكية - تبشر بالانتماءات الطائفية المغلقة التي يسود فيها الرأي المطلق، ونزعة تكفير الآخر، وذلك في محاولة لتشكيل صورة ثابتة وضيقة الأفق عن الماضي.

محاولات أوربا للحفاظ على الهوية الأوربية مقابل العرب:
إن الاتحاد الأوربي الذي يسعى حاليا لترسيخ هوية أوربية جديدة سياسيا واقتصاديا ونقديا يرفض بشدة العولمة الثقافية التي تريد الولايات المتحدة فرضها عليه وعلى العالم أجمع ويتشبث بالخصوصيات الثقافية الأوربية. وأفضل تجلي لذلك ما نجده في فرنسا التي اتخذت مثلا إجراءات قانونية صارمة للمحافظة على لغتها الفرنسية، وسنت قانونا يحظر استخدام اللغة الإنجليزية في وسائل الإعلام وفي التجارة وفي المحلات التجارية وأسماء الماركات والعناوين المستخدمة فيها. على الرغم من تأكيد أوربا على خصوصيتها الثقافية، نجد بلداننا العربية تميل إلى تقمص ثقافة الغرب وهويته، رغم محاولات بعض الدول العربية إلى التمسك بهويتها ورموزها الثقافية، حيث نجد نظمنا التعليمية تميل إلى إتباع أساليب الغرب في التعليم، والتحول نحو التعليم باللغات الأجنبية، وإصرار الجامعات العربية على التدريس باللغة الانجليزية ( حتى التخصصات الإنسانية ). علاوة على ذلك، تخلي شبابنا هويتهم الثقافية العربية الإسلامية حين يتكالبون على تعلم اللغة الإنجليزية دون العربية، ويرتدون الجينز والكاسيكيت الأمريكي وأكل الهامبورجرز، وإصرار الكثيرين على استخدام اللغة الانجليزية في التواصل العام، وفي الوقت الذي يشهد فيه العصر الحديث شعوبا تعتز بلغتها التي كانت منقرضة أو شبه منقرضة يبدو إهمالنا للغة العربية على مستوى العلم والتعليم والتطوير.