الثلاثاء، 24 مارس 2009

سياق الإبداع العلمي وبناء مجتمع المعرفة بالوطن العربي

سياق الإبداع العلمي و بناء مجتمع المعرفة بالوطن العربي

د. عبدالوهاب جودة عبدالوهاب

قسم الاجتماع- جامعتي: عين شمس والسلطان قابوس

شهدت العقود الأخيرة قفزة معرفية كبيرة كما ونوعا؛ كما تطورت طرائق التعامل معها من خلال التقنيات الرقمية التي تسمح بتخزينها ومعالجة متطلباتها بسهولة، وتتيح نقلها ونشرها على نطاق واسع بسرعة وفاعلية. وبناء على ذلك، برز مصطلح " مجتمع المعرفة " متطلعا إلى تعزيز الامكانات المعرفية، والعمل على توظيفه والاستفادة منها في تطوير المجتمعات الإنسانية عامة، المتقدمة منها والنامية.
كما يلقى التوجه نحو بناء مجتمع المعرفة والعمل على الاستفادة من معطياته الاقتصادية والاجتماعية اهتماما لدى خطط المنظمات الدولية التي تسعى إلى التقريب بين كافة الدول، والحد من الفجوة المعرفية والاقتصادية القائمة بينها. ويعتمد التوجه نحو بناء مجتمع المعرفة، والاستفادة من معطياته على تفعيل " دورة المعرفة " وفاعلية أدائها وزيادة عطائها. وتشمل هذه الدورة ثلاث مراحل رئيسة: " توليد المعرفة " بالبحث والإبداع والابتكار، و " نشرها " بالتعليم والتعلم والتدريب؛ و " توظيفها " في تقديم منتجات وخدمات جديدة أو مطورة تسهم في مجالات التنمية، والاستفادة من ذلك في توليد الثروة وإيجاد الوظائف، والمساهمة في تطوير حياة الإنسان.
ويعد الإبداع العلمي " توليد المعرفة " والذي يعد المرحلة الأولى من مراحل تفعيل دورة المعرفة، ومن ثم بناء مجتمع المعرفة المتجددة، أملا في تعظيم التطوير الاقتصادي والاجتماعي. ويقع على عاتق المؤسسات الأكاديمية مهمة توليد المعرفة العلمية بالإبداع والابتكار عبر نشاطاتها " البحثية "، ونشرها من خلال ما تقدمه من " تعليم "، ومن ثم تفعيل دورة المعرفة بمجتمعنا العربي. ولما كانت عملية إنتاج وتوليد معرفة جديدة وتطوير المعرفة القائمة بالبحث والتطوير، وإعداد مبتكرين لمعرفة جديدة أمر بالغ الأهمية في تعضيد مجتمع المعرفة، ودعم الاقتصاد القائم على المعرفة، فإن المؤسسات الأكاديمية، وعلى رأسها الجامعات، تلعب دورا أساسيا في التنمية وانتعاش الاقتصاد القائم على المعرفة، وتصبح محضنا للأبحاث والإبداع وابتكار المعارف الجديدة.
ورغم التطور الملحوظ في بناء مجتمع المعرفة عالميا، إلا أن مجتمعاتنا العربية مازالت تواجه تحديات جمة، تقلل من فرص المساهمة في بناء مجتمع المعرفة. وتنعكس هذه التحديات على مؤسسات توليد وإنتاج المعرفة العلمية القابلة للتطبيق، الأمر الذي يقلل من فاعلية أدائها في تنشيط دورة المعرفة، ومن ثم ضعف قدرتها على المساهمة في إنجاز خطط التنمية الوطنية.
من هذا المنطلق، هدف هذا البحث إلى: محاولة الكشف عن أهم التحديات البنائية لسياق عملية الإبداع العلمي داخل المؤسسات الأكاديمية العربية، وقدرتها على المساهمة في بناء مجتمع المعرفة. ولتحقيق هذا الهدف، طرح الباحث عددا من التساؤلات تمحورت حول: التحديات المتعلقة بالقدرات الإبداعية للباحثين العلميين، والتحديات المتعلقة بمناخ عملية الإبداع العلمي، والتحديات المرتبطة بالمؤسسات الاجتماعية المرتبطة بتكوين الإبداع، والتحديات المرتبطة بالسياق التنظيمي للإبداع العلمي، والتحديات المرتبطة بآليات الإبداع العلمي، بالإضافة إلى مدى قدرة السياق التنظيمي للإبداع على المساهمة في تأسيس مجتمع المعرفة العربي. وللإجابة عن تساؤلات البحث قام الباحث بالتأصيل النظري، والتحديد الإجرائي لمفاهيم: مجتمع المعرفة، والإبداع، والإبداع العلمي وسياقه وآلياته، حتى يتسنى له جمع المؤشرات والبيانات الإمبيريقية التي تمكنه من تحقيق أهداف البحث.
وقد اعتمد البحث على المنهج العلمي بأسلوبه الوصفي التحليلي، مستخدما طريقتي المسح الاجتماعي بالعينة، والمقابلات الحرة. كما تحدد مجتمع البحث في جميع الأكاديميين العرب، والعاملون بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان. وقد اعتمدت الدراسة على العينة العشوائية " الاحتمالية "، وقد تم اختيار مفرداتها بالطريقة الطبقية، حيث شكلت مفردات كل جنسية عربية ضمن جميع كليات الجامعة طبقة في حد ذاتها، وتم سحب عينة ممثلة من كل طبقة، مراعيا في عملية الاختيار تمثيل التخصصات المختلفة ( الطبيعية / الإنسانية ). وقد قام الباحث بتصميم صحيفة استبيان مقننة، ضمنها عدد من المحاور التي تغطي جميع التساؤلات المطروحة، واستخدمها في جمع البيانات الإمبيريقية. كما قام بتصنيف المادة الإمبيريقية، وتحليلها باستخدام منظومة البرامج الإحصائية ( SPSS )، واستخراج الارتباطات الدالة بين متغيرات البحث؛ منتهيا إلى عدة نتائج هامة.
ملخص نتائج البحث
1- توصلت الدراسة إلى ضعف عناصر منظومة إنتاج المعرفة العلمية بصفة عامة، والمعرفة التطبيقية على وجه التحديد وعدم قدرتها على دفع الإبداعية، حيث التأكيد على استمرار سياسات التوجه نحو التوسع الكمي للجامعات ومراكز البحث العلمي والتكنولوجيا، رغم قصور الموارد، ومن ثم انخفاض جودتها على أساس أنها مؤسسات إنتاج المعرفة، واتجاه أنشطتها العلمية والإبداعية على الاهتمام بالكم على حساب الكيف في النشاطات العلمية، مع تركيز معظمها على البحوث الأساسية، وضعف الاهتمام بالبحوث التطبيقية اللازمة لإنتاج معرفة تقنية متجددة، يمكن توظيفها في مجالات التنمية؛ وذلك بسبب غياب استراتيجية عربية متكاملة مستندة إلى فلسفة عامة لمنظومة البحث العلمية والتكنولوجيا.
- كما توصلت الدراسة إلى أن مؤشرات الضعف في منظومة البحث العلمي العربي الأكاديميين العرب ضآلة عدد العلماء والمهندسين مقارنة بالدول الأخرى عالميا وإقليميا، وضعف نظم التدريب وقدرتها على إعداد وتأهيل باحثين يستطيعون التعاطي مع التقنيات المعلوماتية المتطورة، وتوظيفها في توليد أفكار إبداعية جديدة قابلة للتطبيق.
- ضعف قدرة مؤسسات إنتاج المعرفة العلمية في تقديم منتجات إبداعية تعجز عن جذب انتباه مؤسسات الإنتاج الصناعي، وضعف العلاقات التكاملية بين مراكز إنتاج المعرفة ومراكز الإنتاج الصناعي والخدمات، الأمر الذي يزيد من إحجام المستثمرين عن الدخول باستثماراتهم في مجال الأنشطة البحثية والتطوير بالدول العربية؛ علاوة على ضعف ميل الدولة إلى الإقدام على الاستثمار في مجالات العلم، رغم إنشاء المراكز العلمية المتعددة بالجامعات وخارجها؛ وتفضيل استيراد المعرفة والتقانة على الاستثمار في إنتاجها محليا.
- ضعف مستوى البيئة القانونية المنظمة لأنشطة البحث والتطوير، وندرة وجود قوانين وقواعد تمثل بيئة مشجعة لجذب الاستثمار الأجنبي والمحلي، وتنظم الملكية الفكرية وحماية المعرفة الإبداعية، وتنظيم استيراد التكنولوجيا بالدول العربية، ناهيك عن ضعف وضوح المعايير الحاكمة لنشاطات المؤسسات العلمية.
- كشفت الدراسة عن وعي وإدراك الأكاديميين العرب بانحسار فرص التمويل، وضآلة حجم الإنفاق على البحث العلمي، ومن ثم عدم كفاية نسبة المخصصات المالية للنشاطات البحثية والتطوير من إجمالي الدخل القومي بالدول العربية مقارنة بالدول الأخرى، الأمر الذي يقلل من تأسيس البيئة المواتية للبحث العلمي، ومساعدة الباحثين على تقديم معرفة علمية تتصف بالجدة والأصالة، يمكنها أن تجسد في صورة ابتكارات تكنولوجية تستطيع الإسهام في بناء مجتمع المعرفة.
2- نتيجة لضعف وهشاشة منظومة إنتاج المعرفة الإبداعية بالدول العربية، تبقى حالة المنتج العلمي الإبداعي في وضع يصعب معه القدرة على الإسهام في بناء مجتمع المعرفة ( بالإبداع في توليد منتجات معرفية متجددة ونشرها، والحصول على براءات الاختراع)، ومن ثم الانتقال إلى مجتمع اقتصاد المعرفة ( بتطبيق المعرفة وتوظيفها في الحصول على منتوجات تخدم مجالات التنمية). لقد كشفت الدراسة عن وجود موقف سلبي للأكاديميين العرب حيال وضعية الإنتاجية العلمية بخصائصها الراهنة، وابتعادها عن المستوى المؤهل للوصول إلى مجتمع المعرفة، حيث تبين ضآلة حجم الإنتاج الإبداعي وكفايته في العلم، وقلة تناسب هذا الكم الإنتاجي مع عدد العلماء العرب العاملين في البحث والتطوير، وعدم تناسبه بين التخصصات المتباينة؛ مع التذبذب الواضح في معدلات الإنجاز فيه بصورة منتظمة.
كشفت الدراسة عن تأكيد الأكاديميين العرب على ضعف غالبية البحوث العلمية بالوطن العربي في محاولة توليد معارف هادفة، وضعف ارتباط الأنشطة البحثية بأهداف التنمية، حيث يميل معظمها إلى تكرار الموضوعات وإعادة إنتاجها، وتفتقد في معظمها إلى الجودة في الأداء، والجدة والأصالة في الابتكارات؛ الأمر الذي أدى إلى تأكيد غالبية أفراد العينة على أن وضعية المنتجات الإبداعية بحالتها الراهنة في العلم لا تقوى على النهوض بالمجتمع العربي إلى مستوى مجتمع المعرفة المنشود، واقتصادياتها إلا إذا ما اتخذت السياسات والاستراتيجيات الكبرى اللازمة لدفع كافة الأنساق الاجتماعية لمساندة مؤسسات البحث العلمي والتطوير التقني.
3- كشفت الدراسة عن مجموعة من التحديات البنائية التي تشكل عائقا أمام الوصول بالمنتج إلى مستوى النهوض بمجتمع المعرفة، تمثلت في:-
- التحدي الأول: يتعلق بالمشتغلين بالبحث والتطوير الإبداعي: حيث تبين أن الوطن العربي يضم مجموعة بشرية قادرة على قيادة عملية إنتاج المعرفة بكفاءة، ولا ينقصها سوى الإمكانيات المادية، وإتاحة الفرصة للإبداع، وأكد الأكاديميون العرب على أن العلماء والباحثين لديهم ما يؤهلهم لقيادة المجتمع نحو اقتصاد المعرفة، بدليل قدرتهم على قيادة الإبداع العلمي حينما ينتقلون لسياقات اجتماعية أخرى توفر لهم الشروط اللازمة والمهيئة لانطلاق الطاقات الإبداعية، ومن ثم إبداع معرفة تقانية تتجاوز شروط الاستحقاق العلمي العالمي، ومتوجة بالجوائز التقديرية العالمية.
كشفت الدراسة عن تدني الظروف والأحوال المعيشية لكثير من الأكاديميين العرب مقارنة بالعاملين في مجالات أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بالإحباط، والحرمان من حقوقهم، والانخراط في البحث عن أعمال أخرى مساعدة لتأمين معيشتهم ومعيشة أسرهم، ومن ثم الانصراف عن النشاط البحثي وضعف الإسهام العلمي الإبداعي المؤهل لتشكيل اقتصاد المعرفة بالوطن العربي.
- التحدي الثاني: يتمثل في ضعف بنية السياقات التنظيمية لمؤسسات إنتاج المعرفة العلمية، حيث أكدت غالبية عينة البحث على أن البنيات التنظيمية تفتقر إلى وجود سياسات علمية واضحة المعالم، والتغيرات الفجائية والتخبط والتضارب في تنفيذ استراتيجياتها، نتيجة افتقادها إلى معايير واضحة لنشاطات البحث العلمي؛ وطغيان الجوانب الإدارية على أعمال وأنشطة البحث العلمي من حيث الأداء، والتمسك الحرفي بالقوانين، رغم تقادم تلك القوانين واللوائح التنظيمية للنشاط العلمي. كما كشفت الدراسة عن ضعف السياقات الجامعية العربية، لاسيما في الجانب المتعلق بالبحث العلمي وإنتاج المعرفة، حيث تبين تأكيد غالبية أفراد العينة على قصور البرامج، وضعف نظم التدريب بالدراسات العليا، وغياب نمط البحث الجماعي كمجال لتدريب صغار العلماء، وغياب جسور التواصل بين التخصصات المختلفة، إضافة إلى فقدان التواصل بين الجامعات ومراكز الإنتاج والخدمات بربط بحوثها بخدمات التنمية؛ علاوة على ضآلة المخصصات المالية للبحث الجامعي، مع انعدام تمويل بحوث أعضاء هيئة التدريس. ويضاف إلى ذلك، ضعف نظم الإشراف العلمي، وقصور في المهام. وعلى مستوى العاملين في البحث الجامعي اتضح، تأكيد العينة على قلة الوقت المخصص للبحث العلمي نتيجة التركيز على التدريس، وزيادة العبء الدراسي واعتباره الأساس الرئيس في تقييم أداء الأساتذة، إضافة إلى شيوع مناخ اجتماعي يفتقد إلى المنافسة الشريفة بين الأكاديميين وانتشار بعض المشاعر المتسمة بالغيرة.
كما كشفت الدراسة عن نتيجة هامة تتعلق بطبيعة السياقات التنظيمية لبعض الجامعات العربية منها: إلقاء أعباء إدارية على الباحثين في مقتبل حياتهم البحثية والأكاديمية، وإسناد المناصب القيادية إليهم (عميد- مساعد عميد- نائب رئيس جامعة)، تلك المناصب المثقلة بالمتاعب والهموم، الأمر الذي يؤدي إلى تحويل قدراتهم وتوظيفها في مجالات أخرى عن طريق تحميلهم بمهام إدارية، واستقطاع وقت كبير لموجهة مشكلات الطلاب من جهة وحضور الاجتماعات اليومية من جهة أخرى، والانصراف عن البحث والإنتاج العلمي والتوقف – أحيانا – عن إنتاج المعرفة وتعطيل إبداعاتهم العلمية، رغم أن السنوات الأولى بعد الدكتوراه هي سنوات النشاط الإبداعي على أساس أنها آلية للترقي الأكاديمي على الأقل.
التحدي الثالث: يتعلق بوضعية البنى الاجتماعية الكبرى وخصائصها على المستوى الأوسع، وآلياتها المستخدمة في تحفيز الإبداعية عامة والإبداعية في إنتاج المعرفة العلمية خاصة، حيث أفصحت الدراسة الميدانية عن استمرارية حالة الضعف لقوى البني الاجتماعية العربية من وجهة نظر العلماء، وضعف قدرتها في الوقت الراهن على النهوض بمجتمع قائم على اقتصاد المعرفة؛ ويتضح ذلك فيما يأتي:-
- لقد اتضح تأكيد عينة الدراسة على: ضعف وهشاشة النظم الاقتصادية العربية، وفقدانها لعمليات التنسيق والتكامل الاقتصادي العربي، وتشتت أنشطتها، والميل إلى تأكيد استمرار اندماجها وتكاملها مع النظام الرأسمالي العالمي بطريقة غير متكافئة لا تخدم مصالح التنمية بالمجتمعات العربية، الأمر الذي ينعكس على ضعف قدرة تلك النظم الاقتصادية عن الوفاء بالمتطلبات المالية لأنساق المجتمع الأخرى، ومن ثم ضآلة المخصصات المالية للإنفاق على نشاطات البحث والتطوير وإنتاج المعرفة التقنية المؤهلة لارتياد مجتمع المعرفة، والدخول إلى المجتمعات القائمة على اقتصاد المعرفة.
- كشفت الدراسة عن تأكيد الأكاديميين العرب على أن علاقات التبعية والهيمنة الثقافية التي تسم البنى الثقافية العربية، ومحاكاتها للنموذج الثقافي الغربي من جهة، واحتواء التراث الثقافي على عناصر ثقافية تقليدية محافظة، وازدواجية ثقافية، وأشكال للتناقض، علاوة على استمرار معدلات الأمية المرتفعة، وانتشار بعض نماذج التفكير الخرافي والتفسيرات الغائية؛ مع استمرار ثقافة الطاعة والخضوع والالتزام الحرفي بما هو قائم، والخوف من الخروج عن المألوف، والتي تصبح جميعها عوامل مكبلة للعقل العلمي العربي على إنتاج معرفة تطبيقية إبداعية قادرة على الانتقال بالمجتمع العربي إلى مصاف الدول القائمة على اقتصاد المعرفة.
- ضعف أداء الأنساق الأسرية لوظائفها، وضآلة قدرتها على خلق مناخ أسري مشجع على نمو الطاقات والاستعدادات الإبداعية، نتيجة القصور الواضح في التنشئة الاجتماعية وآلياتها المعتمدة لتربية الإبداع وتنميته، وضعف التشجيع على التفكير المغاير وإبداء الرأي، وشيوع التسلطية في الرأي، والإهمال، وإسناد عملية التنشئة والإعداد المعرفي لوسائل الإعلام الحديثة، لاسيما الفضائيات والكومبيوتر في ظل مجتمع المعلومات، الأمر الذي يقلل من فرصة من عناصر الإبداع في المناخ الأسري، وتنمية القدرات الإبداعية وفرصة ظهورها في شكل سلوك إبداعي.
- تتسم النظم التعليمية العربية بالاعتماد على سياسات وأساليب تشجع على تكريس ثقافة التلقين والحفظ، وافتقارها إلى التدريب على أساليب حل المشكلات بالتفكير الإبداعي.
- أفصحت الدراسة عن تأكيد إدراك الأكاديميين العرب على أن الأنساق الإعلامية العربية تتسم بفقدان سياسة إعلامية عربية مهيئة لتنمية العقل العربي، وشحذ قدراته وتربية الاستعدادات العقلية الإبداعية يمكن أن تنقلها إلى سلوك إبداعي، حيث تهتم بتقديم مضمون إعلامي تميل برامجه إلى إعلاء القيم الاستهلاكية، وقيم المكسب السهل السريع دون جهد، وغلبة الموضوعات الفنية والرياضية صاحبة القطاع الأكبر من جمهور المشاهدين، وتركيزها على المسابقات، والإعلانات والمسلسلات وأفلام المتعة والحب، معتمدة على محتوى يغازل الغرائز، دون إعطاء اعتبارات مساوية للموضوعات المتصلة بالعلم والمشتغلين به- باستثناءات طفيفة – وافتقادها لتقديم مضمون إعلامي يعرض ويقدم لنماذج من القدوة العلمية العربية يمكن للأفراد والباحثين العرب الإقتداء بهم، وتشجيعهم على الإنتاج الإبداعي؛ علاوة على افتقار ذلك المضمون الإعلامي إلى برامج هادفة يتم من خلالها تقديم معلومات ومعارف تساعد على إثراء المعارف والأفكار الإبداعية لدى الأفراد؛ علاوة على استخدم أسليب فرض الرأي والموضوع، وضعف القدرة على التعبير الصريح نتيجة الوصاية والرقابة المفروضة عليها، الأمر الذي أفقدها التأثير في تشكيل مناخ اجتماعي قادر على تنمية القدرات الإبداعية وتهيئة العقل العربي للإبداع.
- التحدي الرابع: يتعلق بآليات الإبداع، حيث كشفت الدراسة عن فقدان المجتمعات العربية للآليات اللازمة لظهور الإبداع العلمي وانطلاقه، وعدم تمتع الأكاديميين بالقدر الكافي من الحرية الأكاديمية وغياب نظم حمايتها بالنسبة لهم، وشعورهم بأن هناك بعض الموضوعات محرمة على البحث، وضعف السماح لهم بالنقد الموضوعي، والشعور بالتهديد والخوف عند معالجة تلك القضايا، علاوة على تأكيدهم على ضعف مجالات الرعاية والتقدير والدعم لأنشطة الإبداع العلمي، مع ندرة وجود معايير واضحة لتقييم المنتجات الإبداعية وتحكيمها سعيا نحو تحديد درجة أصالتها وجدتها نتيجة التحيز في تقييم ومنح الجوائز التشجيعية والتقديرية، الأمر الذي يعرقل انطلاق الإبداعات في مجالات العلم والتكنولوجيا المختلفة، ومن ثم صعوبة الوصول إلى مجتمع المعرفة المنشود.
مقترحات البحث
1. على المستوى العام:
- ضرورة توافر سياسة عربية عامة، ترتكز على إرادة عربية قادرة على تغيير واقع المجتمع العربي، مع ابتكار آليات للتنسيق والتعاون والتكامل الاقتصادي، وتنويع البنى الاقتصادية والأسواق، والتوجه نحو الموارد القابلة للتجدد اعتماداً على القدرات التكنولوجية والمعرفية العربية.
- ضرورة اعتماد سياسة عربية عامة لتوجيه البحث العلمي والتكنولوجيا، وذلك عن طريق وضع رؤية إستراتيجية للبحث والتطوير تتبناها الحكومات في الدول العربية، تبدأ أولا بوضع استراتيجية على مستوى كل قطر عربي، وترتكز على أهمية الأخذ بالتطورات العلمية والتكنولوجية، وضرورة تحديد وتوفير البنية التحتية الضرورية لموارد إنتاج المعرفة وتطبيقاتها وخدماتها، ثم يتم ترجمتها في صورة خطط وبرامج واقعية، يمكن لمؤسسات العلم والتكنولوجا تنفيذها سعيا نحو إنتاج الإبداعات في مجال العلم.
- تنسيق الجهود والطاقات العربية وتكاملها في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا – في إطار الاستراتيجية الموحدة - لإقامة البُنية التحية لمؤسسات الإنتاج العلمي، إنشاء البنى الأساسية لمجتمع المعرفة، والمتمثلة في: تدبير الموازنات الكافية، وبناء مراكز الأبحاث والتدريب، وتأثيث شبكات الاتصال العلمي لربط المنظومة ببعضها البعض، وتأهيل القوى البشرية العاملة في البحث، وبناء قاعدة بيانات علمية موحدة من شأنها استيعاب معطيات العلوم المعاصرة وإدخالها في نسيج المجتمع، والاستفادة منها في إنتاج معارف جديدة يمكنها الانتقال بالمجتمعات العربية إلى مجتمع المعرفة، وغير ذلك من المستلزمات الضرورية.
2. توفير البيئة الحاضنة لتطبيقات التكنولوجيا والمشاريع المستندة إليها، والتي تشمل: تأهيل الموارد البشرية في مجال إنتاج المعرفة الإبداعية، ورفع مستوى الوعي والثقافة المعلوماتية لدى شرائح المجتمع، وإنشاء بنية اتصالية متكاملة، قادرة على تعزيز فرص الارتقاء بالمناخ الاجتماعي كوسيط فاعل لاكتساب وتحفيز الطاقات الإبداعية، وظهورها على شكل سلوكيات إبداعية، يمكنها المساهمة في تشكيل مجتمع المعرفة.
3. العمل على إطلاق المشاريع والمبادرات في مجال الإبداعات العلمية، والبحث والتطوير، أو المشاريع المستندة إليها ممثلة في مؤسسات ومراكز المعرفة.[1]
4. دعم صنع القرار في مجالات البحث العلمي، والحكومات الإلكترونية الاتحادية والمحلية، والتجارة الإلكترونية، والتعليم الإلكتروني، وإطلاق سوق إقليمية للمعرفة الابتكارية؛ إضافة إلى تطبيقات المعرفة العلمية في كافة مجالات الإنتاج والخدمات
5. السعي نحو وضع مجموعة من التشريعات والقوانين المنظمة لأنشطة البحث العلمي، وتهيئة بيئة قانونية حديثة تساعد على: تشجع الإبداع في مجالات العلم المختلفة؛ وزيادة القدرة على جذب الاستثمارات المحلية والخارجية في مجالات البحث والتطوير، وحماية المنتجات الإبداعية بالتصدي لعمليات القرصنة الفكرية حفاظا لحقوق المبدعين وتشجيع النشر العلمي.
6. توفير الدعم الحكومي لإنتاج ونشر واستخدام المبتكرات التكنولوجية الحديثة في إنتاج المعرفة العلمية التطبيقية.
7. الانفتاح على العالم الخارجي والنهل من إنجازاته العلمية والتكنولوجية مع المحافظة على الهوية الثقافية للمجتمع.
8. الحرص على تأكيد ضمان الجودة والاعتماد في مجالات البحث والتطوير، والالتزام بالمعايير العالمية في نشر المعرفة العلمية وتطبيقاتها، مع السعي نحو الحصول على أكبر قدر من براءات الاختراع، وذلك عن طريق تشكيل لجان لاعتماد الجودة وتدريبها وتأهيلها للحكم على الخطط والبرامج والأنشطة العلمية والتكنولوجية القائمة، وإبداء الرأي فيها، وطرح الأفكار المناسبة لتجويدها، حتى تستطيع الدول العربية الانتقال بمنظومتها العلمية إلى مستوى مجتمع المعرفة.
9. التخلص من أنماط التفكير غير العلمي، وذلك بتأسيس نموذج ثقافي معرفي عربي أصيل ومستنير، يعتمد على صحيح الدين، وحفز الاجتهاد وتكريمه؛ وإطلاق نشاط بحثي ومعلوماتي جاد في ميدانها؛ والانفتاح المقنن على الثقافات الإنسانية الأخرى والتفاعل معها، واستحضار إضاءات التراث المعرفي العربي وإدماجها في بنية النموذج المعرفي؛ وإثراء التنوع الثقافي داخل الأمة العربية ودعمه والاحتفاء به من خلال حماية جميع الثقافات الفرعية بالمجتمعات العربية، بل ودعم فرص ازدهارها وتلاقحها؛ وتوظيف كل ذلك في تدعيم وتشجيع الإبداعية لدى الأفراد.
10. حرص المجتمعات العربية بمؤسساتها ( الأسرية – الثقافية – التعليمية – الإعلامية – السياسية – الخ ) على أساس أنها السياقات الكبرى للإبداعية في تنمية إحساس الأفراد بالمسؤولية الاجتماعية، وحب الانتماء لثقافتهم وتقاليدهم كي يصبحواِ عناصر فاعلة في مجتمعهم؛ وإتاحة الفرصة أمامهم للتعبير عن آرائهم واتجاهاتهم عبر قنوات الاتصال المتاحة، وذلك لتهيئة الظروف المواتية لتمكينهم من مهارات التفكير الإبداعي وظهور إبداعاتهم في صور منتجات إبداعية يمكن تطبيقها، ولاشك أن تأثير هذه النظم ينسحب على قدرات الأفراد داخل المؤسسات البحثية.
11. تطوير النظم التعليمية وفق مقتضيات مجتمع المعرفة ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة، وتعميم التعليم الأساسي للجميع، واستحداث نسق مؤسسي لتعليم الكبار مستمر مدى الحياة، وتحسين النوعية في جميع مراحل التعليم، وإيلاء عناية خاصة للتعليم العالي، لاسيما بالجامعات وتحسين سياقاتها التنظيمية، وضرورة إشراك مراكز البحوث والدراسات بالجامعات والمعاهد العليا وخارجها بصناعة المعلومات وإنتاج المعارف العلمية، من خلال تأسيس بيئة مواتية لمواكبة عصر المعرفة والتفاعل معه وفق أهداف ومتطلبات التنمية الشاملة.
12. تحسين الأوضاع المعيشية للقوى البشرية العاملة بالبحث والتطوير، وتهيئة المناخ الملائم لمزاولة إبداعاتهم، سعيا نحو القضاء على العوامل الطاردة للأدمغة والكفاءات العلمية، واستفادة المجتمعات الغربية من إبداعاتهم بعدما تكلفت المجتمعات العربية عبء تعليمهم وتأهيلهم؛ وللحد من هجرة الأدمغة والكفاءات العربية، يمكن القيام بالخطوات التالية:-
أ- رفع ميزانية البحث العلمي بالأقطار إلى مستوى المعدلات العالمية على الأقل، وتقديم الامتيازات المالية والاجتماعية للعلماء والباحثين كأفراد ومؤسسات، وهو اتجاه أخذت تنتهجه بنجاح ملحوظ بعض الدول العربية ( كدولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ).‏
ب- الاستفادة النسبية من الكفاءات والأُطر العلمية المهاجرة، من خلال تنظيم مؤتمرات للمغتربين في الوطن الأم (وهو ما تقوم به سورية في العقد الأخير بصورة دوريّة وفعّالة)، وطلب مساعدتهم وخبراتهم، وتبادل المشورة معهم، سواء بصدد الإطلاع على أحدث وسائل المعالجات الطبية والدوائية، أو بشأن نقل الخبرات العلمية والتقانة، أو حتى بغرض المشاركة المالية والاقتصادية في تنفيذ المشاريع الحيوية.‏
ج- التعاون العربي في إقامة مشروعات ومراكز أبحاث علميّة وجامعية تطبيقية، بغرض تكوين كفاءات عربية خبيرة للتخفيف من حدّة سلبيات هجرة الأدمغة والكفاءات العربيّة إلى البلدان الغربية؛ علاوة على تبادل الخبرات واجتذاب الكفاءات المهاجرة للإشراف على البحوث وإنشاء المراكز العلمية وفق الأساليب العلمية المتطورة.‏
د- تهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية وتوفير المتطلبات اللازمة، لخلق بيئة ملائمة لربط العلم وأطره البشريّة المؤهّلة بسياسات تنموية شاملة، تقوم أساساً على الإفادة القصوى من الطاقات والكفاءات العربية، التي ما تزال موجودة بالوطن العربي، ومنحها الفرصة الكاملة للمشاركة الحقيقية في جهود التنمية كي لا تلحق بالكفاءات العربيّة التي هاجرت إلى البلدان الغربية.
هـ- تطوير ثقافة تقدّر وتحترم من ينتج المعارف العلمية ويستغلها في المجال الصحيح، علاوة على توفير نظم لرعاية المبدعين ودعمهم، وتقدير إبداعاتهم.

[1] وفي هذا الصدد لا ننسى ذكر بعض المبادرات الرائدة في مجال الإبداع العلمي، وتأسيس مجتمع المعرفة ببعض الدول العربية كالإمارات العربية المتحدة والسعودية حيث أعلن محمد بن راشد آل مكتوم مبادرة معرفية خلال المنتدى الاقتصادي العربي للشرق الأوسط، مخصصا لها عشرة مليارات دولار للنهوض بالأمة من جديد، ويدعو فيها جميع العلماء والباحثين والمفكرين العرب إلى الإنتاج الإبداعي. وقد استندت فلسفته في بناء مركز معرفي على التأكيد على أن التحديات التي تواجهنا هي تحديات بقاء وليست تحديات إصلاح وتطوير، أي الدخول في عالم المنافسة ببناء وتأسيس مجتمع المعرفة العربي. ومن أهم المبادرات التي أعلنها مركز المعرفة الذي أسس في مايو 2007: إطلاق تقرير المعرفة في المنطقة سنويا بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج تحسين جودة التعليم العالي؛ إنها تجربة ومبادرة رائدة تمثل خطوة إلى الأمام.